السبت، 18 يونيو 2016

تجليات الإبداع في الخطاب المقدماتي


د. أحمد قادم  (كلية اللغة العربية – مراكش)



تسعى هذه المداخلة إلى رصد تجليات الإبداع في الخطاب المقدماتي من خلال كتاب (مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي وهاجس الإبداع) للأستاذ عباس أرحيلة.
والبحث في تجليات الإبداع أمْلَته مجموعة من المؤشرات من داخل المؤلف، أولها: تذييل العنوان بهاجس الإبداع. وثانيها تعاقد الأستاذ مع القراء في مقدمة كتابه على تتبع الإبداع في الخطاب المقدماتي للمؤلفات التي يدرسها، وثالثها، تخصيصه لفصل كامل لمحاصرة هذا الهاجس في التراث الإسلامي.
وسأحاول من جانبي مساءلة المنجز انطلاقا من محورين مهيمنين على تضاعيف الكتاب وهما:
أ‌-     تأصيل الإبداع في خطاب المقدمات.
ب‌-      القراءة ودينامية الحوار والقطيعة في النصوص الموازية.
أ‌-   تأصيل الإبداع في خطاب المقدمات:
يشير الأستاذ عباس أرحيلة إلى أن موضوع البحث لديه هو دراسة مقدمات الكتاب في التراث الإسلامي من بداية التأليف إلى بداية النهضة العربية الحديثة(1).
وهي مرحلة طويلة بالنظر إلى مجموع المؤلفات التي تستغرقها ويستحيل الوقوف على كل مقدماتها. إلا أن الباحث ارتأى – أمام ضخامة العدد- أن يتتبع جزئية واحدة تشكل قاسما مشتركا بين العديد من الكتب وفارقا في الآن نفسه وهي المتعلقة بحديث "المؤلف عن موضوعه"(2).
ولعل القارئ يستهين بهذه الجزئية، فهي لب الموضوع في المقدمات لما تضمنه من إفصاح عن المقاصد وتربطه من وشائج وعلائق مع المتلقي، مع ما يقتضيه ذلك من ضبط للتصور والمنهج ويشيعه من مشاعر وأحاسيس.
لكن المثير في الموضوع بصفة عامة هو الربط بين هواجس الإبداع وتقديم المؤلف لموضوع الكتاب. وهذه الإضافة التي لحقت بعنوان الكتاب موضوع القراءة تضعنا أمام أمرين:
- إما أن الكتاب يتناول إبداعية القراءة في الكتاب الإسلامي.
- وإما أنه يعالج مقدمات الكتب الإبداعية.
ولا يزول هذا اللبس إلا مع القراءة، فقد صرح الباحث أنه بصدد البحث عن التصورات المنهجية في التأليف في الحضارة الإسلامية مع تبيان المنحنيات الإبداعية فيه(3). وهو بذلك يتعاقد مع القارئ على جملة من الأهداف لخصها في كون المؤلَّف:
- شهادة إثبات لوجود تصور واضح للتأليف في المقدمات.
- إعادة لطرح بعض المشكلات العلمية بشكل يرسم منحنيات التطور في سجالات البحث في حضارة الإسلام.
-  في الكشف أن المقدمات الحديثة لا تضيف جديدا إلى مكونات المقدمة في التراث(4).
وتنحصر المقدمة لدى الأستاذ عباس أرحيلة في التقديم الذي يضعه المؤلِّف المسلم العربي لمصنفه(5). وهو بذلك ينأى بنفسه عن مفهوم العتبات والنصوص الموازية التي قد تصاحب النص والتي ربطها أصحابها بنصوصها الشعرية
أو الروائية.
والإبداع من هذا المنطلق وثيق الصلة بما يفصح عنه المؤلف في مقدمة مصنفه أثناء حديثه عن أهمية الموضوع ومدى جدة ما أتى به(6). وبذلك يكون المؤمل أن يصير الإبداع "مقصدا جوهريا في كل تأليف"(7).
وكلما تراجع الإبداع بانت سطوة "الاختيار والجمع والشرح والتوضيح والتلخيص والاختصار"(8).
وهذه الأساليب -وإن ساهمت في الحفاظ على التراث- إلا أنها أرخت بظلالها على الثقافة الغربية، وحالت في كثير من الحيان دون إضافة شيء جديد إلى رصيد الثقافة الإسلامية.
إن الدارس لكتاب الأستاذ عباس أرحيلة ليقف مشدوها أمام غزارة المقدمات وإصرار الباحث على بناء صرح كامل من فكرة واحدة ترصد حديث المؤلفين عن لفظة "بدع" و"اخترع" وتتبع سياقاتها في الخطاب المقدماتي، مع الفصل بين الدوافع الموضوعية والذاتية التي درج المؤلفون على تضمينها في مصنفاتهم.
فالمقدمة في كتب التراث الإسلامي "خطاب تتقاسمه الموضوعية والذاتية"(9) أي الجانب العلمي والفني في الصياغة، ولذلك قسم الأستاذ عناصر التقديم إلى ثابت ومتغير. وهو يرى أن البسملة والحمدلة والتصلية كلها من العناصر المقررة التي تشكل منها ديباجة الكتاب الإسلامي. إلا أن ثبات هذه العناصر لا ينبغي أن يجعل منها "كليشهات" تتكرر في كل مؤلف، فلكل عنصر من هذه العناصر مقاصد ترام منها.   
يضاف إلى هذا أن الديباجة تفصح عن التناسب بين الاستهلال والموضوع، والإبداع يكمن في براعة الاستهلال والقدرة على جلب المتلقي وجعله منصاعا لمقتضى القول، مدركا للمناسبة بين الكلام والمقصد.
ولا غرو فإن لحظة كتابة الحمد لحظة إبداعية "يتغير فيها المؤلف بعظمة الخالق وبتجلياته في أكوانه... إنها لحظة إبداع تتوهج فيها عقيدة المؤمن"(10).
إن الإبداع لدى الأستاذ عباس أرحيلة لا يكمن في الزخارف اللغوية بالدرجة الأولى - وإن كان لا يلغيها - وإنما هو وثيق الصلة بالتعبير عن الانتماء والعقيدة قبل أن يكون احتفالا باللغة والأسلوب.
وقد تجلى ذلك في غزارة الشواهد والمقدمات التي انتخبها من المؤلفات الإسلامية، وتلك المقدمات التي تنوعت طرقها في صياغة عبارات البسملة والحمدلة والتصلية. وجعلت منها موردا ومقصدا، وميدانا للإبداع ودرسا تطبيقيا في بلاغة التناسب.
يقول الأستاذ عباس أرحيلة "أرى أن ما يقدمه المؤلفون في ديباجات الكتب، ليس من قبيل "الكليشهات" كما خيل لكاتب مادة "مقدمة" في دائرة المعارف الإسلامية، وإنما من لحظات الإفصاح عن مكونات النفوس حين تبتهل إلى الله تعالى... وهي لحظات تبوح فيها الذات بمواجدها تجاه الألوهية والنبوة والقرآن والسنة واللغة العربية"(11).
ب-ميثاق القراءة ودينامية الحوار والقطيعة في النصوص الموازية:
عندما نتحدث عن ميثاق القراءة، فإن القصد إلى ما يعد به المؤلف في مقدمة كتابه، والتعاقد مع القارئ على موضوع الكتاب من الأمور الثابتة في الخطاب المقدماتي.
لكن الإشكال يطرح عندما نبحث عن "هاجس الإبداع" في "الرؤوس الثمانية" التي تلخص أهمية الكتاب والغاية منه(12).
وقد نحصل على الجواب في العنوان. فقد كان له في الثقافة الإسلامية ميزة ينفرد بها. إذ اعتدنا أن يكون ملخصا للموضوع، موحيا ودالا على القصد، مع العناية بجمالية الصياغة التي تحقق التواصل بين القارئ والمؤلف.
وهذه الصورة المشرقة التي كانت للعنوان في الثقافة الإسلامية هي التي حذت بالأستاذ عباس ارحيلة إلى الوقوف في وجه كل من سعى إلى النيل منها بدعوى أنها عناوين فخمة لمحتويات جافة(13)، كما ذهب إلى ذلك المستشرق الدانماركي يوهنس بدرسن، فجاء الرد عليه بالقول "هذا حكم لا يخلو من تسرع"(14). بل هو قول "يخلو من الإنصاف"(14). لأن وضع العناوين يستلزم التحقق من التطابق بين العنوان ومضمون الكتاب، وإلا كيف يصاغ عنوان بطريقة شعرية لمحتويات جافة ؟.
إن الصياغة الشعرية للعنوان جزء من ميثاق القراءة، فالعنوان بصفة عامة يحدد طبيعة القراء الذين يخطب ودهم، وهو دليل على الموضوع وطعمه يصطفي القراء في انسجام بين الشكل والموضوع والإيحاء.
ولئن كان السجع من طبيعة العناوين في الثقافة العربية الإسلامية إلى بداية النهضة، فإن هذه الصفة لا يمكن قبولها على إطلاقها.
إن الحديث عن العناصر الثابتة في خطاب المقدمات لا يخلو من مياسم إبداعية تؤول في مجملها إلى اختلاف المواضيع وطرائق الصياغة والاحتفال باللغة دون الزيغ عن المنهج الإسلامي في التأليف ومخاطبة وجدان القارئ.
وكثير ما طبعت هذه المياسم بالشعور بالسبق والنسج على غير منوال سابق. ويرجع الأستاذ عباس أرحيلة هذا الشعور لدى المؤلفين إلى الصراع بين القديم والحديث في تاريخ الحضارات.
فكل إبداع يسعى إلى التطور والتغيير، ولا يمكن للتطور أن يحصل إذا لم يتجاوز المؤلفون كل الحواجز التي تحول دون إثبات الذات(15).  
إلا أن التجاوز لا يعني القطيعة، فالحوار بين السابق واللاحق من الثوابت التي لا يمكن إنكارها. والإبداع لا يكمن في إنكار جهود السابقين، وإن تجرأ البعض وقال إنه جاء بما لم يسبق إليه في محاولة لإبراز إعجابه وأحيانا غروره بالحديث عن كتابه. وعادة ما يكون هذا الإحساس مصاحبا للحديث عن أهمية المؤلف. وهو ما سماه بعضهم "مدح الفن"(16). وقد جاب الباحث بنماذج كثيرة دافع فيها أصحابها عن السبق المعرفي في ميدانهم دون نقص، انتخبت منها قول ابن الأثير في المثل السائر: "وهداني الله لابتداع أشياء لم تكن قبلي مبتدعة، ومنحني درجة الاجتهاد التي لا تكون أقوالها تابعة، وإنما هي متبعة، كل هذا يظهر عند الوقوف على كتابي هذا"(17).   
وقول الإفراني محمد الصغير في مقدمة المسلك السهل (18)
بين تأليفي وتأليف الورى
 

قدر ما بين الثريا والترى

إلا أن الحوار في خطاب المقدمات لا يقف عن حدود القطيعة مع القديم، فالمؤلف عادة ما يستحضر نوعا خاصا من القراء يخطب ودهم بالمضمر من الخطاب. وكثير ما سعى المؤلف إلى رتق الهوة بين الموضوع وقارئه بالدعوة إلى توخي الحذر من الطعن قبل القراءة.
يقول الأستاذ عباس أرحيلة: "ونجد بعض المؤلفين يوجهون وينصحون ويربون ويدعون القراء أن يتسلحوا بالصبر وطلب الحق وهذا يقتضي اليقظة والتنبيه إلى محتويات الكتاب"(19).
ولم يكن هذا الحوار إلا نتيجة لسلوك بعض القراء نهجا لا يراعي مقدار العناء الذي يكابده المؤلف.
وقد بلغ الأمر ببعض القراء أن تصرفوا في المؤلفات بالحذف والتغيير، فدخل المؤلفون في حوار افتراضي مع من سولت له نفسه "أن يتجزم لتغوير منابعه بالتغيير، ويشمر لتكدير مشارعه بالتغيير"(20) على حد تعبير الميداني في مجمع الأمثال.
وجاء في معجم البلدان "ولي على ناقل هذا الكتاب والمستفيد منه أن لا يضيع نصبي ونصب نفسي له وتعبي، بتبديد ما جمعت وتشتيت ما لفقت، وتفريق ملتئم محاسنه"(21).
خلاصة:
إن البحث في التواصل لا يخلو من إيماءات تثير بعض الجوانب المظلمة في خطاب المقدمة. فقد أثبتت هذه الدراسة ذلك الإحساس المبكر بأهمية المقدمات في الثقافة الإسلامية، وكيف تفنَّن الكتاب في استعراض مواضيعهم في كبرياء وشموخ دن الزيغ عن جادة التواضع، مع ما تطلبه ذلك من تعاقدات مع القراء وحوارات بناءة بين القديم والمحدث وسعي إلى ربط أواصر التواصل مع القارئ وتوجيهه إلى احترام الرأي الآخر.
وإذا كان الأستاذ عباس أرحيلة قد خص فصلا كاملا للحديث عن هاجس الإبداع، فقد فصل بين الخلق والابتكار الذي لا يتأتى "إلا لمن قدر الأمر حق قدره ونهيا له"(22)، ﴿فتبارك الله أحسن الخالقين﴾.
والإبداع الذي يكمن في تحقيق "التراكم المعرفي المنشود"(23) فالخلق يعني الإتقان والتقدير، ولفظة الخلق منفية عن الناس بمعنى الاختراع والإيجاد من العدم. ولا تنفى اللفظة بمعنى الصنع(24).
إلا أن الإحساس بالإبداع بدأ بالتراجع منذ القرن السادس وأصبحت المقدمات وعاء للشكوى والتذرع، وتصريحا بالتطفل والتصنع، حتى إن أحدهم قال في التأليف: "خذ كلام الناس من هنا وضعه هنا، وقل مؤلفه أنا".
وأخيرا إن الأستاذ عباس ارحيلة يرجع خفوت الإبداع إلى سطوة الكم على الكيف وشيوع الشروح، والتأليف التجميعي والتكميلات والذيول وغيرها. وكتابته في خطاب المقدمات مع الحرص على إبراز الإبداع وإنما جاء اعترافا بما قدمه الأوائل ودعوة إلى إحياء الإبداع بالنظر إلى ما يتيحه هذا العصر من الوسائل.
  سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله
               إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.



الهــوامـش:

(1)-مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي وهاجس الإبداع، عباس ارحيلة، ط 1، المطبعة والوراقة الوطنية، 2003، ص: 7.
(2)- نفسه، ص: 7.
(3)- نفسه، ص: 7.
(4)- نفسه، ص: 8.
(5)- نفسه، ص: 13.
(6)- نفسه، ص: 34.
(7)- نفسه، ص:34.
(8)- نفسه، ص: 34.
(9)- نفسه، ص: 84.
(10)- نفسه، ص: 94.
(11)- نفسه، ص: 97.
(12)- نفسه، ص: 102.
(13)- نفسه، ص: 107.
(14)- نفسه، ص: 107.
(15)- نفسه، ص: 140.
(16)- نفسه، ص: 146.
(17)- نفسه، ص: 149. وانظر المثل السائر: 1/34.
(18)- نفسه، ص: 150. وانظر المسلك السهل: 1/57.
(19)- نفسه، ص: 159.
(20)- نفسه، ص: 164.
(21)- نفسه، ص: 164. معجم البلدان: 1/13.
(22)- نفسه، ص: 175.
(23)- نفسه، ص: 176.
(24)-نفسه، ص: 177.
    


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق