الخميس، 17 مايو 2018


وَمَاتَ مَنْ (تُعَزَّى بِهِ العُلَى): مات الشريف آيت الفران
عباس أرحيلة
أولا:  مَن يكونُ هذا الذي افتقدناه؟
كان ممَّن  ساقتهم عناية الله عزَّ وجلَّ، أن تكون دراسته الجامعيّة بألمانيا؛ ليُصبح أوّل أستاذ من كلية الآداب بمراكش- وهي في انطلاقتها الأولى - يحمل شهادة دكتوراه بكفاءة واقتدار، وأن يكون خير من استوعب التجربة الأكاديمية الألمانيّة من المغاربة، في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وخير من استفاد من تجربته العلمية طلبةُ كلية الآداب، وكلية اللغة العربية بمراكش، وغيرهما؛ إذ انعكست آثار تلك التجربة في مناخ الحياة الجامعية بالمغرب عامة.
 كانت تجربته هذه انعتاقاً لمخزون نفسي لديه؛ تجربة فجّرت ما كان لديه من طاقات، ومنحتْ حياته بُعداً حضاريّاً جديداً؛ كشف عمّا لديه من عمق إنسانيّ أصيل. تعلَّق بالمكان هناك لما يحمله من زخم حضاريّ اهتز له وجدانه، وانشدَّ إليه فكره وعقله، وظل يشدُّه المكان هنا لارتباطه بقدره في الوجود. وحدث بعض الصدام بين المكانيْن في تجربة صاحبنا؛ ففاضت نفسه في المكان الأول هناك، وعاد  الجثمان محمولا عبر الأثير إلى حيث كانت البداية...
وبفضل كل ذلك أضحى صاحبنا من مؤسسي الدرس الأكاديمي بكلية الآداب التابعة لجامعة القاضي عياض بمراكش، بحمله لمشعل الدرس الجامعيّ مع جماعة جاءت من بلاد الرافديْن آنذاك، وأخرى قدمت من البيضاء وغيرها من أجل النهوض بالدراسات اللسانية واللغوية، إلى جانب ما كان آنذاك من باحثين بمراكش. وكان لكل هؤلاء فضل التضحية والتفاني في إثراء التجربة العلمية بمراكش.
 أما صاحبنا فقد تحمّل بصبر واقتدار ما عرفته نشأة التجربة الجامعية من معاناة، وأسهم بفعالية ونكران ذات في نجاحها واختمارها وما شهدته من تطور وتألُّق في مسارها العلميّ.
وأتذكّر اليوم ، أننا أسسنا معاً السلك الثالث قبل أن يظهر بصورته الإدارية التي استُحْدِثَتْ، وجعلناه في تجربتنا الأولى ينصب على حازم القرطاجني، إلى جانب أبحاث أكاديمية موازية. وقد أثمرت تجربتنا تلك مجموعة من الباحثين لهم اليوم مكانتهم في الساحة الأكاديمية والثقافية عامة.
كان سي محمّد من أولئك الذين جعلوا همَّهم الأول في تأليف الرجال، بدل تأليف الكتب؛ فوهبوا حياتهم لخدمة البحث العلميّ وأهله. وكان من لطف الله بطلبة العلم أن لا يُفكِّر يوما في أن يتولّى شأناً من شؤون الإدارة، وإن كان خير من يتولّى أمرها؛ ولكن ما عندنا منه اثنان.
إن الذي افتقدناه: كان أعظم من وسِعَ قلبُه الزمان، ومن كان بوابة للحكمة في كليتنا، وروحاً طاهرة تسري في ديارنا، وهو من أصابته السهام من مدينته؛  التي شغفته حبّاً ؛ حتى (تكسرت النِّصالُ على النِّصالِ)، وقال بشموخ مع المتنبي:
(وهَانَ، فَمَا أُبَالِي بالرزايا؛       لأَنِّي مَا انْتَفَعْتُ بِأَنْ أُبَالِي).
لم تكن حياة صاحبي مفروشة بالورود، كما يقولون، غير أنه عاشها بابتسامة عريضة، وطموح لا حدود له. وسلاحه في كل ذلك الصبر الجميل، وتحمُّلُ كلِّ ما يأتي الزمان به.
ثانيا: كيف بدأت صداقتنا؟
جمعتنا ظروفُ تعييننا معاً في التعليم الثانوي بمدينة الدار البيضاء سنة 1971م؛ إثر تخرجنا من المدرسة العليا. كان سي محمّد يسكن في العمارة المقابلة للعمارة التي كنت أسكن فيها؛ وموقعهما قريب من محطة الحافلات بـ(بنجدية) آنذاك. وكنا كثيراً ما نلتقي بشارع 11 يناير، عند صاحب المجلات والصحف. كان يمشي بمفرده بأناقته وبهدوئه المعهوديْن؛ وكأنه يتنفّس الحرية، ويسير في موكب يجلله الجلال والجمال؛ وكأن مدينة الدار البيضاء تمشي في موكبه .
 ولم أقض بثانوية مولاي عبد الله أكثر من سنتيْن؛ إذ انتقلتُ عن طريق الصدفة - إلى الثانوية العسكرية بمدينة القنيطرة. وكان يعمل آنذاك بثانية الخوارزمي. وبعد نحو ثماني سنوات كان اللقاء بكلية الآداب بمراكش.
وأستطيع أن أقول إنه منذ هذا التاريخ؛ تجدّدت علاقاتنا، وتنوّعت أحاديثنا في ضوء ما كانت تشهده الكلية، وتعرفه شعبة الأدب العربي من تطورات. وقد وجدتُ في صاحبنا من خلال بعض لقاءاتنا بالشُّعبة واحداً ممن أجد متعة فكرية وروحا إنسانية شفَّافة في الحديث معه؛  من خلال رؤيته الصافية والثاقبة لمجريات الحياة عامة.
 وكنت أجد في تعليقاته على كثير من مظاهر الفكر والحياة، والتي عادة ما يختمها بضحكته المعبِّرة، ما لم أعرفه في غيره. وأقول إنه الإنسان الذي أستحضرُ سلوكَه النبيل في كثير من المواقف في حياتي منذ أن أصبحنا معاً بالكلية سنة 1982م.
 ومن القيم النبيلة والنادرة التي لفتت نظري في شخصه ما تميَّز به من تسامح إزاء كل من حمل له ضغينةً بسبب حسد أو غيره. ولقد لحقه كثير من الأذى من أدنياء الخلق بسبب مكانته العلميّة، وما حباه الله به من خلق كريم، ومن محبَّة الخَلْق له وتعلُّق طلبته به.
ثالثا: ماذا افتقدنا حين افتقدناه؟
ماذا افتقدتُ أنا أولا؟ وما فَعَلَ بيَ موتُه؟ لقد أخذ مني إنساناً تصافيت وإيّاه على خدمة البحث بكل ما أُتِينا من قوة بصدقة وأمانة، وحصل بيننا تناغم وانسجام في مناقشاتنا لما كان يُعرض علينا من رسائل جامعيّة. كان تفاهمنا منقطع النظر في كل ما يمكن أن يحدث في مجالات القضايا العلمية، وما يمكن أن تحدثه مشاكل المناقشات والمداولات. وكنت أبتعد بشكل تلقائي عن كل أمر علمي لا يتوافق مع طبيعته. وبفضل الله وعونه ورعايته ظلت جهودنا العلمية على النهج القويم، لا تتأثر بما يمكن أن تتأثر به العلاقات في مجال المناقشات العلمية، وما قد تثيره من حساسيات في بعض الأحيان، والسر في كل ذلك الأخلاق العالية لصاحبنا.
ومن ثمار صداقتي العلمية به، وما حصل بيننا من انسجام؛ أصبحتُ أستحضر مواقفه  في كثير من القضايا الفكرية، وفي كثير من المواقف التي تعج بها الحياة.
وقد استفدت كثيراً من أحاديثه معي عن التجربة الألمانية حول جهودها في اللغات السامية، وما كان للمستشرقين من جهود في مجال التحقيقات العلميّة للتراث العربيّ الإسلاميّ. ألم يكن هو من أطلعني على كتاب المستشرق الألمانيّ المعاصر( p . freimark ) : (Das Vorwort als  literarische Form  der  arabischen Literatur  -   = (المقدِّمة باعتبارها شكلا أدبيّاً في الأدب العربيّ). صادر في مانستر 1967 )، وساعدني على معرفة ما اشتمل عليه من موضوعات يتحقَّق من خلالها الجانب الإبداعيّ في مقدِّمة الكتاب الإسلامي عامة؟ (كما تجد شكري له في مقدمة الكتاب).
حين افتقدناه؛ افتقدنا الرؤية الأكاديمية بكل خلفياتها المعرفية والتقنية.
 افتقدنا من يأخذ بأيدي طلبتنا في مسالك البحث العلميّ الجاد بمهارته وصبره وتحمله لمتاعبه.
افتقدنا القيم التي على أُسُسِهَا تُبنى الأوطان، وتعرف  المجتمعات طريقها إلى الرقيّ والتحضر.
حين افتقدنا سي محمد افتقدنا من لا يجود الزمان بمثله، وإن الزمان بمثله لبخيل، كما قيل. وحين يُغيَّب سي محمد في اللحد ينبعث صوت أبي تمام من الثلث الأول من القرن الهجريّ الثالث وهو يصيح  في أكناف مدينة مراكش، وفي دنيا الناس عامة:
كذا فَلْيَجِلَّ الخَطْبُ ولْيَفْدَحِ الأَمْرُ     فَلَيْسَ لعيْنٍ لَمْ يَفِضْ ماؤُهَا عُذْرُ
.....
يُعَزَّوْنَ عن ثاوٍ تُعَزَّى بِه العُلى....
رابعا: وكان موته درساً بليغاً قاسياً
كان موته درسا بليغاً قاسياً  لكل من عرفه من قريب أو من بعيد، ولمن فاته أن يُدرك أن الزمن الرديء لا بد أن يُطأطئ رأسه لأمثال سي محمّد، وأن رداءة زماننا  لا ينخدع بها إلا كل من يكره أمثال سي محمّد.
كان موته درسا بليغاً قاسياً لمن فاته في دنياه أن يُدرك كيف تكون هِمَّة الرجال، ويُدرك  أهمية الاعتماد على النفس في زمن الرداءة والانتهازية، وإلى كل من جَهِل معنى الانتماء إلى الوطن صدقاً لا ادِّعاءً، ومن تفانى في العمل بإخلاص من أجل الآخرين.
كان موته درساً قاسياً إلى كل من سعى إلى بناء مجد وهميّ في مجال البحث دون تضحية وتفانٍ وإخلاص، وإلى كل من عاش وهمُّه الأول أن يُناور في معركته في الحياة، وكل سلاحه  فيها ما يُضمره من مكر وخداع وخبث، ولا يستطيع العيش دون أن يقتات من فضلات الحسد والكراهية لمن عرفوا طريقهم إلى النجاح.
أمّا  جنازته فكانت يوماً مشهوداً حرَّك ما كان مطموراً  في سويداء القلوب. يوم رانَ فيه الذهولُ، وتناثرت فيه أوراق الذكريات. أمّا العيون فظلت مشدوهة، تائهة تسأل عن سراب تاهَ في سديم الأيام.
 أعادت جنازتُه شريطاً تراقصت صورهُ وتوالتُ عبْر ما يُقارب نصف قرن من الزمن.
كانت جنازته أشبه بصفعة لكل من ظل سادراً في أنانيته، مغترّاً بكبرائه، ساخراً من القيم حين تتحرّك في فضائه؛ فتُشعره بقماءته، وتعكِّر عليه صفوَ أنانيته وغروره، وتضعه أمام نهايته الخرساء.
 كانت عيون من حضر جنازتك يا سي محمّد، ومن كان يحدِّق في جموعها من المارّة؛ يتردَّد لديه بوعي أو بدونه ما قاله  الإمام أحمد بن حنبل - في القرن الهجريّ الثالث - لأهل البِدَع:
بيننا وبينكم يوم الجنائز.  فكانت جنازتك شاهدة وشهادة.                         (مراكش في :6/5/2018م).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق