الثلاثاء، 8 مارس 2022

 

النهضة العربية الحديثة والاهتمام بالتراث اليونانيّ

عباس ارحيلة

كان المترجمون من السريان قديماً يعيشون في بيئات منعزلة من الرهبان، وكانت الشعلة اليونانيَّة قد انطفأت وذهبت عهود ازدهار الفكر اليونانيِّ. فكان المترجمون يعيشون وسط المخطوطات في دهاليز أديرتهم، لا علم لهم بالمسرح اليونانيِّ. أما في العصر الحديث، وبعد الصدام الحضاريِّ بين الشرق والغرب، فإن الحكماء المترجمين قد أدركوا مكانة الثقافة الإغريقيَّة من الثقافات الأوربيَّة الحديثة، وأُتيحت لهم فرص الاطلاع على أجواء الحضارة المعاصرة وأن يشاهدوا المسرحيات، وبدأت الثقافة العربية منذ مطالع القرن التاسع عشر تتطلع إلى ما لدى الغربيِّين من آداب وأفكار، بل وتطَّلع على الأصول الميثولوجيّة لبعض الآداب الأوربيَّة.

أ - كان رِفاعة الطهطاوي (1801-1873) الرائد الأول في تقديم الأدب اليونانيّ: فقد عُني بتاريخ اليونان وخرافاتها وآدابها وفلسفتها، وقد كان من جهود مدرسة الألسن ترجمة كتاب في التاريخ القديم بعنوان: (بداية القدماء وهداية الحكماء) (طبع بمطبعة بولاق سنة 1254ه)،وقدم له رفاعة بقوله: «ولما كان تاريخ تلك العصور، بالكتب العربية في غاية القصور، ولا سيما تاريخ اليونان، المشتمل على فحول رجال تلك الأزمان، لمَّا أن ذلك حاز كمال الرونق والبهجة، عند أمّة الإفرنجة، وصحَّ التعويل عليه... وكان بمدرسة الألسن من يقوم بتعريب طرفه؛ أعطيتُه لعدة أفراد، لتعريب المراد في أقرب ميعاد»[1].

   وأشرف رفاعة على تصحيح الترجمة ومراجعتها على أصولها. وقد تناول الخرافات اليونانيَّة بالتفصيل في مقالة من خمسين صفحة، وبيَّن أن معرفة اليونان تتوقف على معرفة من ميثولوجيتها؛ التي تعتبر مدخلا لفهم الآداب اليونانيَّة.

    واذا كانت الآداب الأجنبيَّة قد نهجت نهج اليونان، فاتخذت الميثولوجية اليونانيَّة قدوة؛ فإن الطهطاوي يرى ضرورة تعريب الميثولوجية؛ «لاشتمالها على دقائق خفية، ونكات أدبية، لاسيَّما وأن معرفة آداب اللغة الفرنساويَّة متوقفة على معرفتها لما علمت أنها شاربة مشربها»[2]. ويذكر محمد أحمد خلف الله أن مقالة الطهطاوي تعتبر أول محاولة جادة لنقل جوِّ الأساطير اليونانيَّة إلى الفكر العربيِّ الإسلاميِّ.

 وقد خصص المقالة الخامسة من كتابه للكلام عن حِرَفِ اليونان وآدابهم وعلومهم، وقدَّم الخطوط الكبرى لتطوُّر الأدب اليونانيِّ، وقام بترجمة (مغامرات تليمك) لفنيلون (fénelon)[3] إلى العربية لينقل شيئا من جو (الإلياذة) و(الأوديسا). فشغل نفسه أيام نفيه بالسودان بترجمة الكتاب، ثم أخرجه بعد عودته إلى مصر بعنوان (مواقع الأفلاك في وقائع تليماك)[4].

صحيح أن هذه أول محاولة جرئيه في تقديم الأدب الأسطوريِّ اليونانيِّ إلى الثقافة العربيَّة؛ وهي محاولة من شأنها أن تفتح آفاق الأدب القصصيِّ وتجعل العقلية العربيَّة تواجه أجواء الأساطير والمغامرات الغربيَّة.

ويمكن القول إن رجال مدرسة الألسن قد ساهموا في نقل جوانب من التراث اليونانيِّ إلى الثقافة العربيَّة.

ب - وبالرغم من أن النهضة العربية اتجهت إلى العناية بإحياء القيم الأدبية القديمة؛ فإن جماعة من الباحثين من مصر والشام حاولوا أن يتصلوا بمنابع الثقافة العربيَّة الكلاسيكيَّة، وأن يزاوجوا بينها وبين الثقافة الغربيَّة الكلاسيكيَّة. ومن هذه الجماعة نجد محمد روحي الخالدي (1864 - 1913) الذي كان يشغل في فرنسا وظيفة «قنصل جنرال الدولة العثمانية»، يؤلف كتاباً بعنوان: (تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو) (صدرت ط1 بمطبعه الهلال، القاهرة، 1904م، والثانية سنة 1912م)[5]. وقد استعمل الخالدي مصطلح (الحماسة) بدل (الملحمة) وذكر أن أشهر كتب الحماسة عند اليونان «الإلياذة» و«الأوديسا» وأشهر كتب الحماسة عند العرب (حماسة أبي تمام)[6].

ج - وألف قسطاكي الحمصي (1856-1925) كتابه (منهل الوراد في علم الانتقاد) فعرض لهم لـ(هوميروس)، وهو إن استعمل لفظة ملاحم، وأشار في كتابه إلى البستاني؛ فإنه ذكر الحماسة بدل «الملحمة».

د - ودرس  سليمان البستاني (1925 -1856) اليونانيَّة القديمة في سبيل نقل «الإلياذة» فقد ترجمها في نهاية القرن التاسع عشر شعراً عربيّاً، وقدم لها بدراسة مستفيضة حول (هوميروس) وشعره وآداب اليونان والعرب، مذيَّلة بمعجم عام وفهارس طبعت في مصر سنه 1904، وفي 1260 صفحة كبيرة ازدانت بكثير من رسوم آلهة اليونان[7].

وقد تأسف المستشرق (هملتون جب: Gibb) حين وجد أن المظاهر الحديثة السطحية للفكر الغربي هي التي قوبلت بالتقدير؛ بينما ظلت الأصول مجهولة.  فقد استبشر خيراً حين تمَّت أول محاوله لتعريف العالم العربيِّ بشيء من الأدب الكلاسيكيِّ على يدي سليمان البستاني في ترجمته للـ«إلياذة»، غير أنه وجد المحاولة سابقة لأوانها، كما أن المترجم لم يحسن اختيار الموضوع. «فالشعر الملحمي لم يجذب إليه العربي في يوم من الأيام، كما أن لغته ينقصها البناء العريض المناسب للقصائد الطويلة من هذا النوع. ومما زاد في الصعوبات الفنية اضطراره إلى تعريب جميع الأسماء الإغريقيَّة وحشرها في الوزن العربيِّ»[8].

    وكانت الترجمة عبارة عن تمرين بذل فيه صاحبه مجهوداً، ومن ثم فهي لم تعمِّق مزايا الأصل اليونانيِّ في النفس العربيَّة. وكتب رشيد رضا على أثر صدور ترجمة «الإلياذة»: «الآن عرفنا موقف العرب من الشعر اليوناني، ولماذا نبذوه، ولم يترجموه، أو يأخذوا من معانيه»[9].

    ولاحظ (جب) أن مصر كانت تسعى سعياً حثيثاً وراء الديمقراطية الغربيَّة والعلم الغربي. وهي تجهل أصولهما، فأحسَّ طه حسين بهذا التناقض أعمق إحساس، فبادر إلى دراسة الأصول باعتبارها أساساً لكل ثقافة حية، ومن شأنها أن تحقق التقدم المنشود. وكان أحمد لطفي السيد مدير الجامعة في الوقت نفسه منكبا على ترجمة (الأخلاق إلى نيقوماخوس) عن الفرنسية، وقد ظهر سنه 1924. وإذا كانت الأوضاع السياسيَّة قد ذللت السبيل لطه حسين، فإنها من الناحية أخرى عطلت انتشار دعوته. وحين نُقل إلى كرسيِّ الأدب العربيِّ، توقَّف عن المضيِّ فيما كان مقدما عليه من الدراسات القديمة، وكانت نهاية مبكرة تدعو إلى الأسف[10].

وتنهض  الجامعة المصريَّة منذ أوائل القرن الحاضر بالدراسات القديمة، ويزداد اتصال الفكر العربيِّ بالمسرح اليونانيّ وأدبه عن طريق الاتصال بالمسرح الأوربيِّ وآدابه الحديثة. ونجد الدراما الإغريقية طريقها إلى الترجمة العربيَّة البليغة وإلى المسرح العربيِّ، وتصبح اليونانية من أركان الدراسات الأدبيَّة واللغوية في الجامعات العربيَّة[11].

 وما سبقت الإشارة إليه لا علاقة مباشرة له بالتفكير الأرسطيّ، إنما كان تعرفا على بعض ملاحمه من خلال اطلاعهم على أعمال الكلاسيكيين الأوربيِّين، وسنجد أن الجانب العقلانيَّ من النهضة العربيَّة الحديثة سيتصل اتصالاً مباشراً بأرسطو، ويعتبره عمدة للنهضة.

 



[1] بحوث ودراسات في العروبة وآدابها: محمّد أحمد خلف الله، ص 160 (نقلا عن بداية القدماء وهداية الحكماء، ص 6).

[2] نفسه، ص 160

[3] فنيلون (Fénelon) (1695 – 1715)  أحد علماء الدين والدراسات الدينيّة في فرنسا في القرن 17. ألف الكتاب المذكور للدوق دو بوركون (Duc de Bourgogne ) حفيس لويس الرابع عشر، واتخذه أداة لنقد سياسة حكومة لويس الرابع عشر والدعوة إلى الإصلاح (المرجع نفسه، ص 162).

[4] نفسه، ص 162 – 163.

[5] مقدمة في النقد الأدبيّ؛ عليّ جواد الطاهر – (ط1)، ص93.

[6] نفسه، ص 93.

[7]  نفسه، ص94.

[8] دراسات في حضارة الإسلام: هاملتون جب، ترجمة إحسان عباس ومحد يوسف نجم ومحمود زايد – (ط1) ، 360.

[9] خصائص الأدب العربيّ: أنور الجندي، ص 268 – 269.

[10] نفسه، ص 361.

[11] بحوث ودراسات في العروبة وآدابها: مجمّد أحمد خلف الله، ص 160

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق