الأربعاء، 23 سبتمبر 2015

العربيّةُ عمدةٌ في التشريع




عباس أرحيلة
تمهيد:
رمزت اللغةُ العربيّة؛ باعتبارها لسان الوحي، لتجليات الحق ودلَّت عليه، وجاء النصُّ القرآنيّ زاخراً بخصوبة المعاني وقوة الإيحاء.

والمعنى في هذا النص يرتبط بأمر عَقَديّ أو تشريعيّ، ويأتي العلمُ بالعربيّة للكشف عمّا يُفهَمُ من مراد الله، وتحديد شرع الله؛ فأُثيرتْ في الثقافة العربيّة مشكلة المعنى، وعلاقتها بالألفاظ الدالة عليها، وكان للأصوليين ريادةٌ في مدارسة المعنى وعلاقة اللفظ بالمعنى داخل عملية التفكير؛ إذ اللغة تعبير عن الفكر.
أولا: استنباط الحكم الشرعيّ من دلالة النّص

كانت عناية الأصوليِّين بكيفية استنباط الأحكام من الكتاب والسنة من دلالات النصوص وسياقاتها. ومن هنا احتلَّت المقدِّمة اللغويّة من كتب الأصوليِّين مكانة خاصة، واشتملت على أبحاث مطولة في تقسيمات اللفظ بالإضافة إلى المعنى، وعرضت في مجملها لقضايا المعنى وضبط القوانين في فهم النصوص[1].
وغاية الأصوليّ أن يستنبط حكماً شرعيّاً من عبارة النّص، أو إشارته واقتضائه، وفحواه، لضبط معناه، ولا يتأَتَّى له ذلك بفهم ما تُؤديه العبارة على مذاهب العرب في القول. « ولأنَّه – كما قال الشافعي مؤسس علم الأصول – لا يعلم من إيضاح جمل علم الكتاب أحدٌ جهِل لسان العرب »[2].

ثانيا: العلم بحقيقة النّص وطبيعته

 من المقرّر أن الجهل بحقيقة النّص يُؤدي إلى تحريف مدلوله، وما يترتَّب عنه من تعطيل لمنهج الله؛ خاصة وأنَّ في القرآن مُحْكَماً ومتشابهاً، وفيهما درجات من الوضوح والغموض، وأنماط من أساليب التجوّز في التعبير. « ومن جهة المجاز – كما يقول ابن قتيبة – غلِطَ كثيرٌ من الناس في التأويل، وتشعّبتْ بهم الطرق واختلفت النِّحَل »[3].  
وهكذا، فَفَهْمُ النصوص هو منطلقُ البحث على الأدلة الشرعيّة، والفهمُ موكولٌ إلى المعرفة الدقيقة باللغة، وبتصاريف القول فيها؛ إذ لا يتأتّى استنباط حكم لا تقتضيه طبيعة اللغة.
فالمعنى الشرعيّ يُؤخَذُ من الدليل اللفظيّ. وقد يُستدلُّ عليه بغير اللفظ، ولكن يظل اللفظ دالا على المعنى التابع لقصد المتكلم. فاللفظُ في تصوُّر الأصوليّ هو دليل الحُكم على صحّة الفكر أو خطئه؛ إذ اللغة ترجمةٌ لما يجري في الفكر. من هنا أَخذتْ اللغة عن الأصوليِّين منحىً علمياً؛ أصبحتْ به وسيلةً لاستنباط الحكم، تتجه إلى الاصطلاح وتخاطب العقل.

ثالثا: منطق العربيّة أساس الفهم

والشافعي في وضعه للأصول المعتمدة في فهم النصوص وتأويلها اعتمد منطق اللغة العربيّة. وقد أورد السيوطي (911 هـ) في كتابه: (صون الكلام عن فن المنطق والكلام) قول حرملة بن يحيى: « سمعتُ الشافعي يقول: ما جهِلَ الناسُ ولا اختلفوا إلا لتركهم لسان العرب وميلهم إلى لسان أرسطاطاليس (...)، ولم ينزل القرآن ولا أتتِ السُّنَّة إلا على مصطلح العرب ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال؛ لا على مصطلح اليونان، ولكل قوم لغةٌ واصطلاحٌ»[4].
وجاء الفخر الرازي (606 هـ) فاعتبر في كتابه: (مناقب الشافعي) « نسبة الشافعي إلى علم الأصول كنسبة أرسطاطاليس إلى علم المنطق، وكنسبة الخليل بن أحمد إلى علم العروض (...) فثبت أنّ نسبة الشافعي إلى علم الشرع كنسبة أرسطاطاليس إلى علم العقل »[5].
وهكذا يتضح أنَّ المنهج في استنباط الحكم من النصِّ أُسِّسَ على منطق العربيّة. ونجد ابن خلدون وهو يؤرخ للعلوم في الحضارة الإسلاميّة قد أطلق علوم اللسان العربيّ على علوم العربيّة، وجعلها أركاناً أربعة: اللغة والنحو والبيان والأدب. وقرر أنَّ« معرفتَها ضرورية على أهل الشريعة؛ إذ مأخذ الأحكام الشريعة كلِّها من الكتاب والسنة، وهي بلغة العرب، ونَقَلَتُها من الصحابة والتابعين عربٌ، وشرح مشكلاتهم من لغاتهم؛ فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علمَ الشريعة»[6].

رابعا: انفتاح النص على الحياة

وقد وجد ابن القيم الجوزيّة (751هـ) من الأصوليين «مَن يفهم من الآية حكما أو حكميْن، ومنهم من يفهم عشرةَ أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد الفهم دون سياقه، ودن إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخصُّ من هذا وألطف ضمُّه إلى نصّ آخر متعلق به، فيُفهم من اقترانه به قدراً زائداً على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا بابٌ عجيبٌ في فهم القرآن لا ينتبه له إلا النادر من أهل العلم »[7].
واللفظ لدى الأصوليّ يتطوَّر بناءً على مدلوله وعلى استعمالاته في العُرف والشرع مما يجعل النصّ منفتحاً على الحياة يسمحُ بالاجتهاد.
إنَّ الاحتكام إلى النَّصَّيْن المؤسِّسَيْن للإسلام (القرآن والحديث الشريف) يظل ثابتاً إلى نهاية العالم. منهما تُستمَدُّ الحلولُ لمشكلات الحياة، وما ينشأ عنها من واقع وأحداث. من فهمهما وتدبُّرهما ينطلق الاجتهاد. من هنا تظل العناية بعلوم اللغة العربيّة من الثوابت في مسار الحضارة الإسلاميّة.
إنَّ العالم الإسلاميّ أوجد أضخمَ مادة قانونية في الفقه لكل جوانب الحياة الإنسانيّة، حينما تَفَهَّمَ النصَّ التشريعيّ ودَقَّقّ في تحديد مدلولات ألفاظه، مع وعي كامل بطبيعة التطور الدلاليّ؛ فكان له علم بالعربيّة وبأسرارها.

خامسا: البحث العلمي ضرورة وجود

واليوم تسود القوانين الوضعية في العالم، وبتأخُّر المسلمين يتأخَّرُ فقهُ المعاملات عن متابعة ما يجِدُّ في حياة الناس.
إنَّ العالم يتطوَّر من حولنا بسرعة مذهلة، ويزيدنا النظام العالميّ الجديد استضعافاً في الأرض، ويُحكِمُ إقفالَ باب الاجتهاد عندنا، وتزداد نفوسنا إحباطاً ودماراً.
إنَّ السيادة اليوم في الأرض لا تتأَتَّى بغير البحث العلميّ في مجالات المعرفة الحديثة. والاجتهاد لا يتحقَّق بغير انفتاح على تطورات العصر ومواكبتها معرفيا.
مَسارُ اللغة العربيّة اليوم موكول إلى وضعية العرب والمسلمين سياسيّاً واقتصاديّاً وتقنيّاً وثقافيّاً. وكل إصلاح يُهمل علومَ العربيّة ولا يُدخلها في معترك الحياة بتطوراتها العلميّة يترك باب الاجتهاد موصداً ويحكم على الحضارة الإسلاميّة بالجمود. وكلُّ مواكبة لأي عصر بدون العربية تِيهٌ! وسيرٌ على غير هدىً!






[1]  ينظر: التصوُّر اللغوي عند الأصوليين: د. السيد أحمد عبد الغفار – ومصادر هذا التصور تلتمس في أمهات كتب الأصول، وخاصة في كتاب المستصفى من علم الأصول لأبي حامد الغزالي.  
[2]  الرسالة: الشافعي، ص50.
[3]  تأويل مشكل القرآن،ص103.
[4] صون الكلام عن فنيْ المنطق والكلام: السيوطي، ص45.

[5] مناقب الشافعي، ص 43 - طبقات الشافعية: تاج الدين السبكي:1/100.

[6]  مقدمة ابن خلدون، تحقيق: د. علي عبد الواحد وافي:3/1224.
[7] أعلام الموقعين: ابن قيم الجوزية:1/354.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق