الثلاثاء، 6 أكتوبر 2015

مع أطروحة د. عبد السلام الخرشي




عباس أرحيلة
 أولا: كلمة عن د. عبد السلام الخرشي

 هو علم من أعلام مدينة مراكش، أول من عرفت له متابعات دقيقة لكل ما جدّ في مجالات الثقافة الإسلامية، وأول من وجدت لدية أجوبة عما يعتبره أهل الفكر من المعضلات، وله في كل ذلك تحليلاته واستدلالاته ومواقفه من منطلق النصوص الصحيحة البانية للعقيدة الإسلامية.وأعجب ما تسمعه من  أحاديثه استحضارُه للنصوص الدالة على كل قضية تُعْرَضُ للنظر.
وأعتبره من القلائل في بلادنا ممن حملوا هموم الأمة الإسلامية لمدة تتجاوز ثلث قرن. وإذا كانت وسائل الإعلام لا تعرف له طريقا؛ فإنه من أعلام المحافل العلمية  بفضل دروسه ومحاضراته التي قل من يُضاهيه فيها في مدينة ومراكش وفي غيرها؛ يتصدَّرُها بشموخه العلمي، وبمنهجيه في استقراء النصوص وسهولة استحضارها، وكيفية تحليلها وعرضها، وما يُضفيه عليها من حيوية قلَّ أن تجدها في غيره، إلى جانب ما تختزنه ذاكرته من عيون الأدب العربي شعره ونثره، وما حباه الله تعالى من تنويع في أساليب الأداء البياني؛ مما تُستمال به النفوس، وتشد به الأذهان.
 د. الخرشي شخصية نادرة في تكوينها النفسي والاجتماعي والعلمي، وتنصهر هذه المكونات كلها في دروسه ومحاضراته وفيما يكتبه؛ فتجد نفسك أمام علم من مفاخر الأمة في لحظة عزها، وأمام عالم يسمع لنبضات العصر ببصيرة نافذة، وإلى مثقف له اطلاع دقيق على كل ما يجري حوله، وتجد فيه الخبير بمشاكل التعليم في المغرب الحديث، وتجد فيه المتحدث الذي يثير انتباهك بملاحظاته وتعليقاته، وبالكيفية التي تجده يعتزُّ بها بتراث المسلمين في جميع حقول المعرفة.
 وأطروحته لنيل الدكتوراه – فقه الفقراء والمساكين في الكتاب والسنة، والتي أقول فيها هذه الكلمة – رَصَدَ فيها المنهجية الإسلامية لمعالجة معضلة الفقر؛ مستقاة بمهارة غير معهودة، وباستيعاب غير مسبوق، من الكتاب والسنة.
 الأستاذ الخرشي رحمه الله مع طلبته


 ثانيا: معضلة الفقر في التجربة البشرية

من السنن الكونية في الوجود البشري التفاوت الظاهر في تقسيم متاع الدنيا على سكان الأرض، وهي أرزاق وزعها ربُّ العزة على مخلوقاته في الأرض بمقادير مقدرة تتحقق من خلالها التجربة البشرية على الأرض؛ فتتوالى الابتلاءات لتلك التجربة بين من استأمنهم على مال الله فكانوا أغنياء، وجعل حاجة آخرين إلى ما في أيديهم باعتبارهم فقراء. وأقام سبحانه نظام التعايش بين الفئتيْن، ورسم كيفية الانسجام بينهما لتستقيم حركة الحياة في مسيرة التجربة البشرية على الأرض. ولا استقامة لحركة الحياة بغير معالجة ظاهرة التفاوت بين الأغنياء والفقراء، ولا سعادة في دنيا الناس بغير الاحتكام إلى منهج الله في كيفية معالجة تلك الظاهرة؛ أي ظاهرة الفقر في المجتمعات.


ثالثا: عجز البشر عن معالجة معضلة الفقر

حقيقة الفقر عند د. عبد السلام الخرشي أنه " من العويصات المثيرة للكثير من الحروب والأزمات، والإحن والسخائم وأنه الآفة الخطيرة التي ظلت تفتك بالحشود من البشر... حتى لتشكل اليوم القنبلة الموقوتة التي لا تُبقي ولا تدر، وأنه المعرة الجامعة لكل عار".
فالفقر عند د. عبد السلام عويصة؛ لم يهتد الناس لحلها، ومعضلة ضاقت عليهم سبل معالجتها. ولاحظ أن أمر هذه المعضلة ظل غامضاً لم توُفق البشرية في التغلب عليه. في البحث عن معالجة هذه المعضلة " تعطلت وسائل البشر، ادلهمّت الرؤية؛ فطغى التخبط والتكفؤ والتخرّص. وما زال الأمر يستفحل حتى تصير الحلول إشكالات، وشرانق تخنق المُنظِّر والمُنَظَّرَ له" [ص5]
فهو يرى ما تعانيه البشرية من سير على غير هدى في محاربة معضلة الفقر، ويرى أن البشرية تفتعل الحلول الكاذبة، فتعيش في تقلبات لا تنتهي، فلا التنظير لما تعاني منه أفادها وأخرجها مما تتخبط فيه، ولا هي أدركت انحرافها عن المنهج الأمثل.
وأعاد د. عبد السلام إلى الأذهان القاعدة العلمية التي يعيش الناس في غفلة عنها؛ وهي الاحتكام في حركة الحياة إلى منهج الله عز وجل؛ فكل صنعة يُرجَعُ فيها إلى الصانع، ولا وجود لحل خارج المنهج الذي ارتضاه الله لخلقه.
إن القاعدة المنهجية هي أن نستعيض عن الحلول البشرية، وأن نردّ كل ما نتنازع فيه ونختلف، إلى منهج الله عز وجل. قال تعالى:" فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول". فالأطروحة ترفض الحلول المعتمدة في معالجة معضلة الفقر، وترى أن الأنجع والأصلح في ذلك، والأقل كلفة وجهدا ووقتا؛ الاحتكام إلى ما ورد في القرآن والسنة. وهكذا تقدم الأطروحة المنهج البديل الذي يجهله أصحاب النظريات الاقتصادية في العالم المعاصر، وتعمل في ضوئها المنظمات والمراكز.

رابعا: مقاصد المنهج وآثاره في حياة الناس

يرى د. الخرشي أن تطبيق هذا المنهج – الذي رصده من خلال الكتاب والسنة - يضع حدّا للاختلالات البارزة في بنيات المجتمعات المعاصرة، كما أنه يضع حدا لمظاهر التفاوت بين الطبقات الاجتماعية. ويرى أن الحياة لا يمكن لها أن تستقيم على كوكبنا الأرضي، ولا يمكن لها أن تحظى بالأمن الاستقرار، وتوفر للإنسان كرامته؛ إلا إذا جعلنا متاع الدنيا شِرْكَةً بين الأغنياء والفقراء، وصار المال دولة بين الأغنياء والفقراء.  والمقصد الأساس في المنهج الرباني أن يكون هناك في كل مال حلال حق معلوم للسائل والمحروم.
وقد قدم د. عبد السلام منهجية في كيفية الاستمداد من المصدريْن المؤسسيْن للهوية الإسلامية. وإذا نظرنا بإمعان في مفاصل هذه الأطروحة؛ أتضح لنا أننا أمام نظرية متكاملة عن موضوع الفقر، غير مسبوقة ولا مطرقة، كما قال.
والحق أن هذه الأطروحة تعدّ أول بحث علميّ استوعب بدقة متناهية ما ورد في القرآن وما صح من السنة عن الفقر.
ولهذا البحث خطره في التنوير والتغيير، ولو قدر لروحه أن تسري في نفوس الفقراء والأغنياء على السواء؛ لاستقامت حياة الناس.

خامسا:  أطروحة هي مشروع حياة

منطلق هذه الأطروحة كان وليد صدام مع بعض عناصر المد الشيوعي بمدينة مراكش نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وهي عناصر كانت تنكر أن يكون للإسلام موقف من حل مشكلة الفقر وتنظيم شؤون الفقراء." وكنا نواجه إنكارهم هذا، بل سخريتهم أحيانا... وينتابنا شعور صادق؛ بأننا مقصرون، وهم مستلبون جاحدون ضالون جاهلون...وكنا نعتقد جازمين، أنهم ضحيا تيارات فكرية تخطط للهيمنة على عقول وخيرات ومقدرات العالم الإسلامي خاصة؛ وهم فريقان: من يلوح بمجتمع بدون طبقات، ومن يبشر بمجتمع حر تنطلق فيه قوى الإنسان لتعمل وتنتج، ونعود بالله؛ فإن عددا منهم ما زال في حالة خمار"] ص7 - 8].
والفريق الثاني، بالرغم من ارتباطه بالقرآن والحديث؛ لا يمتلك نظرة دقيقة شمولية " لهذا الدين القيم الذي اعتنى حتى بمشي وصوته ودخوله الخلاء... فكيف بالقضايا الكبرى مثل قضية الفقراء والمساكين، ونظام الحكم، ووضعية العمال، والنظام التربوي التعليمي، وملكية الأراضي، وتنظيم الجيوش، والإعلام... فما كنا نجد إلا في النادر جدا، من لهم تلك النظرة" [ص8].
مع إحساس عبد السلام بالتقصير، أمام ما يراه من استلاب لعقول أجيال، وقصور نظر؛ جدّت في العالم الإسلامي تحولات كبرى:
1 -  اتساع مدى الثروات النفطية وغيرها في العالم الإسلامي واتساع مدى الاستفادة منها.
2 - ازدهار نشر التراث الإسلامي؛" مما لم يكن الناس يحلمون به".
3 – " وصدور دراسات جادة من منظور إسلامي تكاد نستقطب جوانب الحياة، ولها التصاق قوي بالواقع ومتطلباته وتحدياته".
4 – " وظهور عدد من المؤسسات والجماعات الإسلامية المنافسة والواعية، وانكشاف زيف تلك التيارات والأيديولوجيات لكل ذي بصيرة منصف باحث عن الحق والخير"[ ص8].
أمام انتشار الكتاب الإسلامي بكل اتجاهاته، وظهور الدراسات الملتصقة بالواقع ومتطلباته وتحدياته؛" كانت لنا قراءة للكتاب والسنة، وأصبح لزاما على العاملين في حقل المعرفة الصحيحة النافعة، والحاملين هموم الأمة، وفي ذمتهم، أن يقدخوا زناد عقولهم... ليبلوروا للأمة وللإنسانية قضاياها الظرفية والمصيرية في مشاريع منهجية ومنظمة وقابلة للتطبيق؛ من صميم كتاب ربها وسنة نبيها واجتهادات علمائها الأفذاذ ذوي... الرؤية المستقبلية... فلم يبق – الآن – عذر لمن له قدرة على أن ينفع الأمة والبشرية بشيء فتقاعس.
بهذا الإدراك وتحت هذا الشعور وجدتني معانقا ومحتضنا موضوع: القراء والمساكين... مما انتهى به – بتوفيق الله وتسديده – لا إلى حل ودواء ناجع لمشكلة فقراء العالم الإسلامي خصوصا والعالم عموما فقط، ولكن إلى نظرية كاملة عن الفقر والفقراء؛ مستخلصة من الأصول الإسلامية، وغير مسبوقة ولا مطروقة" [ ص8 – 9].

سادسا: ما قاله عبد السلام عن حوافز اختيار الأطروحة
(وعلى ما لهذا الموضوع من أهمية بارزة، فإن الرغبة العارمة في الكتابة عنه والاشتغال به تاريخا وحكاية، ظهر معهما بذرة، وانتهى- بفضل الله - دوحة وارفة: فقد كنا نجلس – من سنين وبدأب- إلى صنفين ممن يتعاطون المعرفة.
أحدهما يركز في مسائله ومناقشاته على الجانب الاجتماعي، وبالأخص على الوضعية المتردية التي تعيش عليها معظم الشعوب الإسلامية المشكلة في غالبيتها من الفقراء والمساكين. ويشتط، فينكر – في اصرار – أن يكون لله ورسوله عناية بهذا النوع من البشر، وبالأحرى أن تخصص لهم مواد ضافية من القرآن والسنة تنظر لهم وتنظم شئونهم، وتحل مشاكلهم وتعمل لإنقاذهم وإدماجهم.
وكنا نواجه إنكارهم هذا، بل سخريتهم أحيانا... وينتابنا شعور صادق؛ بأننا مقصرون، وهم مستلبون جاحدون ضالون جاهلون...وكنا نعتقد جازمين، أنهم ضحيا تيارات فكرية تخطط للهيمنة على عقول وخيرات ومقدرات العالم الإسلامي خاصة؛ وهم فريقان: من يلوح بمجتمع بدون طبقات، ومن يبشر بمجتمع حر تنطلق فيه قوى الإنسان لتعمل وتنتج، ونعود بالله؛ فإن عددا منهم ما زال في حالة خمار [ ص7 - 8].
والفريق الثاني، بالرغم من ارتباطه بالقرآن والحديث؛ لا يمتلك نظرة دقيقة شمولية " لهذا الدين القيم الذي اعتنى حتى بمشي وصوته ودخوله الخلاء... فكيف بالقضايا الكبرى مثل قضية الفقراء والمساكين، ونظام الحكم، ووضعية العمال، والنظام التربوي التعليمي، وملكية الأراضي، وتنظيم الجيوش، والإعلام... فما كنا نجد إلا في النادر جدا، من لهم تلك النظرة" [ص8].

2 - ازدهار نشر التراث الإسلامي؛" مما لم يكن الناس يحلمون به".
3 – " وصدور دراسات جادة من منظور إسلامي تكاد نستقطب جوانب الحياة، ولها التصاق قوي بالواقع ومتطلباته وتحدياته".
4 – " وظهور عدد من المؤسسات والجماعات الإسلامية المنافسة والواعية، وانكشاف زيف تلك التيارات والأيديولوجيات لكل ذي بصيرة منصف باحث عن الحق والخير"[ ص8].
" كانت لنا قراءة للكتاب والسنة، وأصبح لزاما على العاملين في حقل المعرفة الصحيحة النافعة، والحاملين هموم الأمة، وفي ذمتهم، أن يقدحوا زناد عقولهم... ليبلوروا للأمة وللإنسانية قضاياها الظرفية والمصيرية في مشاريع منهجية ومنظمة وقابلة للتطبيق؛ من صميم كتاب ربها وسنة نبيها واجتهادات علمائها الأفذاذ ذوي... الرؤية المستقبلية... فلم يبق – الآن – عذر لمن له قدرة على أن ينفع الأمة والبشرية بشيء فتقاعس.
... مما انتهى به – بتوفيق الله وتسديده – لا إلى حل ودواء ناجع لمشكلة فقراء العالم الإسلامي خصوصا والعالم عموما فقط، ولكن إلى نظرية كاملة عن الفقر والفقراء؛ مستخلصة من الأصول الإسلامية، وغير مسبوقة ولا مطروقة" [ ص8 – 9].

بهذا الإدراك وتحت هذا الشعور وجدتني معانقا ومحتضنا موضوع: الفقراء والمساكين، وصاحب حدب عليه ورعاية له وحرص على ما يمت إليه بصلة حسبما وقفت عليه سابقا أو طالته يدي لاحقا، مما انتهى بي- بتوفيق الله وتسديده- لا إلى حل ودواء ناجع لمشكل فقراء العالم الإسلامي خصوصا والعالم عموما فقط، ولكن إلى نظرية كاملة عن الفقر والفقراء، مستخلصة من الأصول الإسلامية، وغير مسبوقة ولا مطروقة).

الأستاذ الخرشي رحمه الله خلال حفل تكريمه بمؤسسة البشير للتعليم الخصوصي بمراكش

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق