السبت، 9 يوليو 2016

حوار مع د. عباس أحمد أرحيلة أجراه: محمد عويس – القاهرة -

   
في إطار الاحتفال السنوي لمعهد المخطوطات، التابع للمنظمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم (ألسكو)؛ تمَّ اختيار كتاب: ( العنوان: حقيقته وتحقيقه في الكتاب العربيّ المخطوط) للدكتور عباس أحمد أرحيلة؛ ليكون كتاب العام التراثي لسنة 2016م؛ تثميناً للإضافة الحقيقيّة الذي قدّمها هذا الكتاب في علم تحقيق النصوص.
 وبسبب المرض الذي حال دون حضوره في الاحتفالية بيوم المخطوط، التي كانت تحت عنوان: (قيم الثقافة وثقافة القيم)، والذي شاركت فيه عدة مؤسسات ثقافيّة وجامعيّة من العالم العربيّ الإسلاميّ؛ حمَّلتُ عبر الأثير هذه الأسئلة إلى مؤلفه؛ فكان هذا الحوار مع فضيلته حول كتابه: ( العنوان: حقيقته وتحقيقه في الكتاب العربيّ المخطوط).


وهذه أسئلتي للدكتور عباس احمد أرحيلة مع ما تلقيته مع أجوبة عنها:
السؤال الأول: أبدأ بالسؤال عن أهميَّة عناوين الكتب في تاريخ المعارف البشريّة؟
جواب: عناوين الكتب في تاريخ التأليف هي العلامات التي رصدت حركات الفكر البشريّ في حياة الشعوب، ودلّت على ما بقي من آثارها المكتوبة؛ ممّا تداوله أهل الفكر في معترك الحياة.
فالعناوين علامات في مسار المعرفة الإنسانية؛ سِمَاتٌ دالةٌ على ما تختزنه الكتب من مضامين؛ سماتٌ تُعرب عن  مرامي أصحابها، وتكشف عن مقاصدهم فيها.
 السؤال الثاني: ألهذا هذا السبب حظيت عناوين الكتب بهذه الأهمّيّة في تاريخ التأليف؟
 جواب: نعم، لقد حظِيَتْ صفحة العنوان بالعناية على امتداد تاريخ التأليف؛ لأهميتها في تحديد مجالات التأليف ومكانتها في التاريخ لتطور المعارف. وظلت من أجل ذلك تشدّ انتباه الباحثين على مدى السنين. وتضاعف اهتمام المحققين في العصور الحديثة بالتدقيق في مدى صحّة عناوين الكتب المخطوطة وانطباقِها على موضوعاتها.
وعناية من الباحثين بهذه الوظائف؛ سعى المؤلفون بكل طاقاتهم إلى اختيار العناوين الدالة على مقاصدهم، وتفانوا في تحديدها واختيارها. ويأتي ذلك لحظة وضعها وهم في حال من الإعجاب بالذات؛ نتيجة مواقع منجَزاتهم في مجالاتها المعرفيّة، كما يتصوّرون.
السؤال الثالث: إذا كان لعناوين الكتب هذه الأهمية في تاريخ المعرفة، فهل عرفت هذه العناوين مزيدا من الاهتمام في العصور الحديثة؟
جواب: نعم، يبدو أن عناوين الكتب نالت موقعا خاصا على أغلفة الكتب، منذ ظهور الطباعة في القرن الميلادي الخامس عشر. وزاد هذا الاهتمام بالعناوين في الدراسات الحديثة، حيث حظيت مسألة العنوان باهتمام خاص في النقد الأوربيّ الحديث؛ في سياق ما اصطُلح عليه بـ(عتبات النص)؛ إذ اعتبر العنوان طليعة هذه العتبات؛ لكونه المؤشّر الأول في جوهر ما تحمله من دلالات وإيحاءات على موضوع الكتاب، ولموقعه على صفحة غلاف الكتاب، وقوة جاذبيته في التواصل مع حقيقته أولا، ومع قارئه ثانيا.
ويُلاحَظ أن علم السيمولوجيا أولى العنوان أهمّيّة خاصة، كما هو واضح في كثير من الدراسات المعاصرة. وأضحى العنوان في مجال الرواية ودواوين الشعر من المفاتيح المساعدة على تحليل النصوص واستنطاقها، واستكناه مضامينها قصد تأويلها، وتقريب مقاصد أصحابها. وهكذا ظهر علم خاص أطلق عليه اسم العنونة  (Titrologie). حتى قال بعضهم في هذا الصدد: النص هو العنوان، والعنوان هو النص.
السؤال الرابع: ماذا يمكن أن تقول لنا باختصار عن مفهوم العنوان؟
جواب: العنوان بوابة يقتحم القارئ من خلالها عالم الكتاب، ويسعى المؤلف من ورائها إلى اكتناه حقيقة موضوعه، عن طريق بلاغة صياغته، وما تحمله من قوة إيحائية بقيمة الكتاب في مجاله. قوة تحفِّز القارئ وتغريه باكتشاف ما ينطوي عليه الكتاب. ولمَّا كان المؤلِّف هو أعرف الناس بموضوع كتابه، وأنه اختار له عنواناً يُعرب عن حقيقته؛ فإن القارئ يتطلع من خلال قراءته لهذا العنوان، أن يكتشف خبيئته من خلال صياغته التي جعلها المؤلف أصدق تعبير عمّا يرمي إليه.
فالعنوان يختزل بدقة، حسب صياغته، قصد صاحبه، ويكون بمثابة قنطرة عبور إلى كُنه الكتاب؛ فهو علامة على الطريق تُنبئ القارئ إلى الغاية البعيدة  التي يقصدها المؤلف. وتتشكل تلك العلامة في كلمة أو كلمات؛ يكون لها دور حصار الموضوع واختصار لحقيقته، وإعطاء لمحة عنه، وإشارة دالة على ما خفي من مراد صاحبه، أو ما يتطلع إليه.
وقد اعتبر الشريف العوني العنوان (برقية معجزة)؛ تختصر الكتاب بصفحاته بله مجلداته في كلمات يسيرات.
والشريف حاتم بن عارف العوني هو صاحب كتاب: (العنوان الصحيح للكتاب، تعريفه وأهميته، وسائل معرفته وإحكامه، أمثلة للأخطاء) [ ط1، 1419هـ/ 1999م].  
وهو بحث رائد في بابه، كان لصاحبه فضل الإسهام في الدراسة والتأصيل لمسألة العنوان، طرح فيه صاحبه ما يعترض محققي المخطوطات من قضايا وإشكالات في ضبطها، والتحقُّق منها. كما أنه رصد كثيرا من الأخطاء الواردة في عناوين الكتب المطبوعة.
السؤال الخامس: أريد أن أسألك عن أهم ما شدَّ انتباهك أثناء بحثك عن مفهوم العنوان في المعجم العربيّ؟
جواب: إلى جانب دلالات لفظ العنوان في المعجم العربيّ؛ من كونه علامة دالّة على موضوعه، وعلى ما ينطوي عليه؛ فإنَّ أهم ما شدَّني في المعنى المعجمي للفظ عنوان، دلالته على الحبس والأسر؛ فالزمخشري (538 هـ) ذكر في شرحه لفصيح ثعلب أن أصل مادة عنوان تدل على الحَبْس؛ من عنَّ الدابَّة؛ إذا حَبَسها في العُنَّة أي الحظيرة. وعنَّها: كَبَحَها بالعِنان أي ألجمها، والعِنان: سَيْرُ اللجام الذي تُمسك به الدابّة. وقال إن عنوان  الكتاب مأخوذ من ذلك.
وفي (لسان العرب): عنَّيْتُه تَعْنيَةً إذا أسَرتُه وحبستُه مضيِّقاً عليه. وأعناه إذا جعله مملوكاً، والعاني المملوك، ومنه عنَوتُ الكتابَ. فالعنوان يحاصر موضوع الكتاب، ويجعله عانيا له أي واقعاً في أسره، سجيناً له، ويُلزم صاحبه بالخضوع والانضباط إليه.
السؤال السادس: هل يمكن اختزال وظيفة للعنوان  في ضوء ما ورد في (مادّة عنوان) في المعجم العربيّ؛ ممّا ساعدك على الكشف عن أهميته، في حركة التأليف ؟
جواب: لاحظت أن العنوان في المعجم العربيّ، يتأثّر في وجوده بوظيفتيْن:
الأولى هي أَسْرُ موضوع الكتاب ووضْعه داخل شرنقة من الألفاظ، لا يستطيع أن يخرج من سجنها المعرفيّ.
والثانية وظيفته الدلالة على القصد، والإيحاء بالمضمون، حتى يتم التوافق والتطابق بين صيغة العنوان وموضوع الكتاب.
ومما يثير العجب في مقومات العنوان ووظائفه: أن له شرف التقدم والظهور والعلو، وهو في ذات الوقت أسير لموضوع الكتاب؛ حبيس له. والغريب أن يُصبح هذا السجين في الآن ذاته مفتاحاً لقراءة الكتاب، وبوابة لموضوعه، ولا يصحُّ تحريره من أسره  !
وهو في محبسه ذاك، يسعى العنوان أن يحقق وظيفة إغرائية تستميل القارئ، وتؤثِّر في فكره ووجدانه؛ بما يحمله العنوان من مقومات جماليّة فنيّة إيحائيّة بموضوع الكتاب.
وتأتي براعة المؤلف في مُحاصرة الموضوع في كيفية نحته في كلمة أو مجموعة كلمات؛ تشعّ منها حقيقة الكتاب؛ ليُصبح موضوعُه سجيناً لها، ومنصهراً فيها.
وتأتي براعة المؤلف في مُحاصرة الموضوع في كيفية نحته في كلمة أو مجموعة كلمات؛ تشعّ منها حقيقة الكتاب؛ ليُصبح موضوعُه سجيناً لها، ومنصهراً فيها.
السؤال السابع: وماذا تقول عن عنوان كتابك هذا؟
جواب: عن حقيقة العنوان في التراث العربيّ الإسلاميّ، كان السعي إلى الكشف عن أهمِّيَّة العنوان ودلالته ووظيفته وصياغته، وكان منطلقي من المادة المعجميّة، للفظ عنوان، وما كان له من دلالة في صناعة الكتابة، وفي البلاغة العربيّة، مع الإشارة إلى انبثاقه الطبيعيّ داخل حركة التأليف في سياق الهُويّة الإسلامية.
أما عن تحقيق عنوان الكتاب المخطوط، فأردت التدقيق في صحته والتحقق من هُويَّته، مع الحفاظ على صيانته وحُرْمَتِه.
 السؤال الثامن: أريد أن أعرف كيف يكشف العنوان عن موضوع الكتاب؟ وكيف تتضح أهمية العنوان لدى مؤلفه أولا؟
جواب:  تتضح أهمية عنوان الكتاب أولا لدى مؤلفه؛ حين يُعرب عن إحساسه القويّ بموافقة عنوان الكتاب لموضوعه قصداً وإيحاءً.
ومن هنا نجد كثيرا ما يتردد في مقدمات الكتب؛ أن العنوان الذي اختاره المؤلف لكتابه، جاء موافقاً لمسمّاه، ومطابقاً لمعناه، وترجمةً دالة على مغزاه، ووقع النعت منه موقع الحقيقة؛ فأصبح يُستدلُّ على مضمون الكتاب بمجرد العنوان؛ بسبب مصاحبته لموضوع الكتاب؛ إذْ يكشف العنوان عن المسمَّى، ويوضح المعنى.
ولا تتحقق محاولات التطابق بين العنوان وموضوع الكتاب؛ إلا إذا استطاع المؤلف أن ينفُذ إلى جوهر موضوعه من خلال العبارة الدقيقة التي تدل عليه، وتوحي بمضمونه؛ مما يُسهِّل – في العادة – تصنيف الكتاب في مجاله المعرفي وفهرسته.
السؤال التاسع: كيف تتمّ ولادة العنوان في فكر صاحبه؟ وما عسى أن يكون صدى هاجس الإبداع في نفسه؟
جواب: الأصل أن يأتي العنوان وليد تجربة فكرية ووجدانية بعد تفكير طويل في موضوع ما، وتأتي صياغته حاملة لشعور بقيمة ما جادت به قريحته، موحية بأصالته في بابه، وعمق تجربته في الإعراب عن فكره، والاستدلال به على موضوعه.
ومن هنا يكون حرص المؤلف أن يضع له اسماً دالا عليه؛ مطابقاً لما يريد تسميته. ومن هنا قيل: الكتاب يُعرف من عنوانه.
وكل ذلك يحمل صدى موضوع الكتاب في نفس صاحبه؛ وما يُخامرها من إعجاب يتفجَّر عادة في العنوان، في صياغته الجمالية، وما يكتنزنه من تشاكُل صوتي، وشحنات إيقاعية، تزيد من جاذبيته لفكر القارئ ووجدانه.
ونتيجة إعجاب المؤلف بكتابه؛ يُضفي عليه في جزئه الأول من مظاهر الطبيعة ما يجعله موازيا لها بكل ما يتمثل فيها من شمس وقمر وأشعة ونجوم، وما تزخر به من نفائس المعادن كن جواهر ولآلئ... وزهور وورود... وهكذا
وهكذا يمكن حصر بنية العنوان في وظيفتيْن اثنتيْن؛ أولاهما: الإعراب عن قيمة الكتاب في فكر صاحبه ووجدانه، وثانيتهما: الإعراب بوضوح عن موضوعه.
ولا يعدم القارئ الأمثلة على ذلك في كل ما يصادفه من عناوين.
السؤال العاشر: كيف يتعرَّف أهل التحقيق على عناوين الكتب؟ وبم يستعان به على معرفتها؟
جواب: يستعان على التحقُّق من عنوان الكتاب في العادة؛ مما هم مثبت على صفحة الغلاف: وتساعد في ذلك بقية نُسخ الكتاب إن وُجدت، والنظر في مقدمته؛ إذ كثيراً ما يذكر المؤلف ما اختاره من تسمية لكتابه. كما تساعد على ذلك مراجعة كتب الفهارس، وكتب التراجم والطبقات، وفهارس المخطوطات...
وعن المعاناة في تحقيق عنوان الكتاب؛ يذكر د. رمضان عبد التواب (ت2001م) وهو يتحدث عن تجربته (في تحقيق نسبة الكتاب وتوثيق عنوانه) ، أن المحقق ( قد يقضي شهوراً وسنوات وهو يبحث في تحقيق نسبة مخطوطة إلى صاحبها، والتهدّي إلى معرفة صحة عنوانها).
السؤال الحادي عشر: وماذا عن مسؤولية المحقِّق في إثبات العنوان كما وضعه صاحبه؟
جواب: إن الهم الأول للمحقق أن يثبت العنوان الصحيح الذي هو بصدد إخراجه من (مخطوطيته) الأولى، وأن يعمل على توثيقه التوثيق العلميّ الصحيح، الذي تتحقق به نسبة الكتاب إلى صاحبه. فصفحة العنوان أول ما يواجه القارئ للمخطوط، وأول تحدٍّ يصادفه، فلا تحقيق لكتاب لم يصحّ عنوانه.
وإن التحقُّق من صحة العنوان تستدعي الأمانة من المحقق، والصبر حتى التمكن من معرفته على الصيغة التي وضعها عليه مؤلف الكتاب. ويقتضي هذا المزيد من الخبرة والذكاء والتسلّح بالحذر.
ومن المقرّر عند أهل التحقيق أنه لا يجوز تغيير العنوان؛ إذ من شأن ذلك أن يلحق بالكتاب تشويها لحقيقته، وانتهاكاً لحرمته. وكيف يتمُّ إخراجه بالصورة التي وضعها عليه مؤلفه، مع تزييف عنوانه، وضياع ما يؤشر على مراد صاحبه؟ وتلك جناية علمية. ألا ترى أن المحقق لا يقنع بما يجده على أغلفة نسخ المخطوط؛ وإنْ تعدّدت نسخه؟ ولا يعتمد على مقدماتها وما يرد في نهاياتها؟ فكل حالة تحتاج من المحقق إلى تدقيق ومساءلة ووجود حسٍّ نقديّ. والنُّسخ التي كتبت بأقلام مؤلفيها لم تصل منها إلا أشياء قليلة جدا، ولم تسلم كثير من العناوين من التزوير.
وخصص الشريف العوني القسم الأكبر من كتابه لأمثلة من الأخطاء الواقعة في عناوين الكتب؛ ممّا نبّه عليه أهل العلم قبله، وممّا هداه إليه البحث. ونبّه ألا تُعتمد تلك العناوين – لاحقاً - في طبعات الكتب.
السؤال الثاني عشر: عند غياب العنوان في الكتاب المخطوط، لسبب من الأسباب؛ كيف يتدخل المحقّق في مثل  هذه الحالة؟ وما حدود هذا التدخل؟
جواب: أشرت في كتابي إلى بعض الحالات التي تسمح للمحقق أن ينظر في أمر ذلك الغياب. منها إذا وقع طمسه أو طمس جزء منه، وكان لا يتناسب مع موضوع الكتاب، وإذا كشف المحقِّق أنه حدث تزييفه، أو أن صاحبه مات قبل إتمامه، وبقيت منه جزازات بدون عنوان.
وينظر هنا – على سبيل المثال – ما  ذهب إليه مصطفى جواد (تـ1969م)، وما اشترطه من كمال أدوات التحقيق لدى المحقق، حين قال: (وربما يُصادف المحقق مخطوطاً قد كُتب عليه اسم لا ينطبق على موضوعه، أو بعيدٌ كل البعد عن موضوعه، أو مخطوطاً كُتب عليه اسمُ غيرِ مؤلفِه؛ وأسباب ذلك؛ أن من الناس من كان يبعثه خبثُه على محوِ اسم الكتاب، واستبداله به اسماً آخر، وإن منهم من يجد الكتابَ خِلْواً من اسم المؤلف واسم الكتاب؛ فيضع اسماً بحسب ما يراه صواباً"[فن تحقيق النصوص، مجلة المورد 1977، ص125].
وقد تتعدد العناوين للكتاب الواحد لأسباب، منها: إحساس مؤلفه أن صياغته لا تفي بالمطلوب، وقد يكون ذلك وليد الإعجاب بالكتاب، وأن جدير بمجموعة عناوين. والأصل أن يلتزم المؤلف بعنوان واحد، وألا يتجاوز الكتاب عنوانا واحداً.
السؤال الثالث عشر: كيف يكون البحث عن عنوان المخطوط؟
جواب : يكون ذلك - في العادة – إما بفحص المخطوط ذاته بحثا عن ذلك، وإما بالاتجاه صوب المظان الممكنة التي تقود إلى ذلك.
فعن طريق فحص المخطوط يتم إجراء دراسة داخلية للمتن، من منطلق نُسَخِ الكتاب المخطوط، وما قد يعتريها من اختلافات. وتظل أوثق نسخة ما وجد بخط المؤلف، أو من إملائه، أو بقراءتها عليه، أو ما ضُبط عليها عامّة، أو كانت أقرب إلى عصر مؤلفها... وقد يفيد ما على صفحات عناوين المخطوطات من إجازات وسماعات ووقفيات خاصة...
وتظل مقدمة الكتاب المخطوط الموطن المساعد الأول في معرفة العنوان؛ إذ غالبا ما يأتي التصريح به هناك، وللنساخ به عناية خاصة ( كتابته أحيانا بخط مغاير). وإلى جانب ذلك يتم فحص تضاعيف متن الكتاب المخطوط؛ بحثاً عن ذلك. وقد يشار إليه في نهاية المخطوط؛ خاصة إن تعددت نُسَخه. وقد يؤدي مهمّة العثور على العنوان إن وُجد مختصرٌ له.
وحين لا يُجدي هذا الفحص للمتن شيئا، يلجأ المحققون إلى ما لدى المؤلف من كتب أخرى، أو ورد في فهرست كتبه – إن وُجِد - التي كانت جوهر تكوينه. وقد تفيد النقول الواردة منه في مصادر أخرى. ولا يمكن الاستغناء في هذا البحث عن الفهارس وكتب التراجم والطبقات عامة.
وقد تكون القراءة الفاحص لأسلوب المخطوط؛ ممّا يساعد على التعرف على معرفة صاحبه. كما أنه لا يُستغنى عن سؤال أهل العلم من ذوي الاختصاص.
السؤال الرابع عشر: هل كانت لك غايات أخرى غير التي أعرب عنها عنوان كتابك: (العنوان حقيقته وتحقيقه في الكتاب العربيّ المخطوط)؟
جواب: صحيح أن عنوان كتابي يُعرب عن غايتين: الأولى تتعلق بحقيقة العنوان داخل الهُوِيَّة الثقافية العربيّة الإسلاميّة، والثانية كيف يتم تحقيقه في ضوء تجربة علم التحقيق للكتاب المخطوط. لكن كان من غاياتي أيضا إثبات أن حقيقة العنوان كان انبثاقاً طبيعيّاً من المجال الثقافي العربي الإسلامي، ولم يكن بتأثير وافد على الثقافة العربيّة؛ فالقرآن الكريم الذي وضع نقطة الختم للوحي الإلهي، والذي هيمن على الكتب السابقة، وجاء للبشرية جمعاء؛ عنوانه: (القرآن)، ولكل سورة فيه عنوان، وأن المادة المعجمية للفظة العنوان في اللسان العربيّ دلت على انبثاقه من مجاله العربي، كما دلت على ارتباطه بصناعة الكتابة، وحضور اصطلاحه في البلاغة العربيّة.
 وغاية الغايات عندي إثبات وجود منهجية للتأليف في الثقافة العربيّة، كما سعيت إلى ذلك في كتابي: (مقدمة الكتاب في التراث الإسلاميّ وهاجس الإبداع).
السؤال الخامس عشر: ماذا يمكنك أن تقول لنا عن الوضع العام للتحقيق في عالمنا العربيّ؟
جواب: هذا يحتاج إلى جواب مؤسسة مختصة في هذا المجال.
 وما يمكن قوله هنا: لقد عرف المخطوط العربيّ طفرة علمية نوعيّة واسعة في إخراجه إلى النور، والعناية به تحقيقا وإخراجاً ونشراً وتوزيعاً، كما هو واقع حاليا في المملكة العربيّة السعوديّة. ولأصحاب الكوديكولوجيا رأي في قيمة هذه التحقيقات، لا يختلف – في جوهره – عما يقوله بعض الباحثين عن مستوى التحقيق في العالم العربيّ، وما يصفونه به  من ضعف وهزال وتشويه لحقيقة التراث. ويرى الكوديكولوجيون شأن المنتقدين لما عليه مستوى التحقيق حاليا في العالم العربيّ؛ ضرورة إعادة كل ما حُقِّق من كتب التراث؛ إلا في القليل النادر منها. وأرى أن الفكرة العامة عن تاريخنا الثقافي والعلمي، وعن تراثنا الديني بشكل خاص؛ أصبحت واضحة المعالم، وهي في جوهرها مستمدَّة من كل هذا التراث بالصورة التي انتهى بها إلينا؛ منشوراً أو محقَّقاً.
وستظل الدعوة إلى إعادة تحقيق كثير من المخطوطات قائمة؛ كلما دعت الضرورة العلمية إلى ذلك. وستظل الآمال معقودة على تجديد النظر في تحقيق بعض المخطوطات؛ كلما كان لذلك أثر في إعادة النظر في مسار تلك الفكرة التي قام عليها كياننا الثقافي.
وأرى أن ما يساعد على إعادة النظر في التحقيقات العلميّة عامّة، ويكون له هذا الدور  الخطير  في إعادة النظر في مسار تلك الفكرة التي قام عليها كياننا الثقافي؛ أن تظهر مجلات علميّة تتولّى المتابعات النقدية التصحيحيّة العلمية الدقيقة لأهم ما ينشر من تحقيقات علمية، جامعية أو غيرها.
وقد تراكم اليوم لدينا نسبة كبيرة من الإشكالات التي واجهت التحقيق، وما تزال تواجهه في العالم العربي؛ استمداداً من رحلة البحث عن المخطوطات، والمعاناة في إخراجها، وتوثيقها والتعليق على ما تدعو الحاجة إليه فيها.
ويحتاج الأمر إلى لملمة كل ذلك، وتنقيته من الشوائب والتكرار، وبعد فحصه وتمحيصه، والنظر فيما يُوجَّه إلى واقع التحقيق من انتقادات؛ تعقد ندوات علمية متخصصة للنظر في تجديد حركة التحقيق في عالمنا العربيّ.
وشكري في الأخير إلى د. فيصل الحفيان الذي لولاه ما كان لهذا الكتاب أن يكون، ولا نال حظوة كتاب العام التراثي. فالله تعالى يتولاه برعايته، ويشمله بعطفه، ودعائي له أن يزيده من فضله.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق